من أوجه الإعجاز العلمي في السنة النبوية..الميـاه الراكدة ودورة البلهارسيا
من أوجه الإعجاز العلمي في السنة النبوية..
الميـاه الراكدة ودورة البلهارسيا
د. يحيى إبراهيم محمد
ورد في صحيح البخاري: باب البول في الماء الدائم (236) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نحن الآخرون والسابقون))، وبإسناده قال: ((لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه)).
كما أفرد البخاري ـ رحمه الله ـ بابًا في النهي عن الاغتسال في الماء الراكد (283)... عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، أنه سمع أبا هريرة يقــول قال رســول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يغتسل أحدكم بالماء الدائم وهو جُنُب)) فقال كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً.
وفي صحيح مسلم باب الماء الدائم (57) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه)).
وفي صحيح ابن حبان ج 4/ص67، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه أو يشرب)).
كما أخرج حديث أبي هريرة، ابن ماجة، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، والدار قطني، وأحمد في مسنده.
واستدل الفقهاء من هذه الأحاديث النبوية، على حُرمة البول في الماء الراكد الذي لا يجري، وكراهية ذلك في الماء الجاري إن كان كثيرًا، وتصل هذه الكراهية للحرمة إن كان الماء الجاري قليلاً لمظنة تغيّره بذلك.
كما أجمعوا على أن حرمة التغوط في الماء أشد من حرمة التبول فيه.
أما عن استعمال الماء الراكد للضرورة في الوضوء أو الاغتسال، فلم يحرم ذلك، وإنما حرم الانغماس فيه.
هذه تعليمات وإرشادات إسلامية صادرة من نبي الهدى، الذي لا ينطق عن الهوى، وإنما نطق عن وحي يوحي منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وإنه من تمام إيمان المسلم الأخذ بما آتاه الرسول، والانتهاء عما نهى عنه، موقنًا أنه الحق الذي يحمل خيريْ الدنيا والآخرة، مادام أن هذا الأمر ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بطريقٍ صحيح.
وهكذا، وقف علماء المسلمين في التحقق من الرواية، ثم الاستدلال من واقع الألفاظ والعبارة، على المقصود منها بكل عناية، فإنها المرجع والنهاية لكل فقيه مجتهد، وعالم متبع.
والماء الدائم هو الماء الراكد الذي لا ينقطع عن المكان في غالب الوقت، أو المستديم الذي لا يجف أبدًا مع ركوده.
ويقابله الماء الجاري الذي لا يسكن لتجدد المدد له، وإن استدام على هذه الحالة.
فلو كان العقل حكَمًا في ذلك؛ فما عساه الفرق بين الماء الجاري، والماء الدائم إذا كان نظيفًا وصالحًا للوضوء؟
ولم النهي عن الانغماس في الماء الدائم تحديدًا، ولم يحدد في ذلك الماء الراكد؟
فإننا نرى تبويب هذه الأحاديث في كتب الحديث، تحت عنوان الماء الراكد (بم لا يستدل منه على فرق بين الماء الدائم والراكد)، وإن كانت لفظة (الماء الراكد) لم ترد في أية من الروايات التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم!!..
وإنه كان المقصود النظافة، فقد يظهر لنا أنه أبلغ في النظافة، أن ينغمس الإنسان في الماء إن توفر له، والظاهر كذلك، أن ليس في ذلك إيذاء للنفس ولا للآخرين. فإن الإنسان بنفسه لا ينجس الماء إذا مسّه وخالطه، بل إنه في هذه الحالة يحافظ على الماء، ولا يهدره كما لو تناوله!!.
لكننا إذا نظرنا إلى نص الحديث، نجد أن هذه الأمور قد حُسمت، ولا مجال فيها البتة، إلا أن يكون رفضًا لما نهي عنه.
وإنما تركت مساحة للاستدلال الصحيح، فقد ورد النهي عن البول، ويقاس عليه أن النهي عن البراز في الماء أشد.
وورد النهي عن البول في الماء الدائم، والحاجة إليه في الوضوء قائمة، فيقاس عليها نفس الحرمة للبول في الماء الجاري؛ إن كان قليلاً، والكراهية إن كان كثيرًا، والأولى ترك ذلك لما فيه من الاستقذار، وتغيير الماء الذي يحتاج له المسلم في الوضوء والاغتسال.
أما إذا استأنسنا بعلوم العصر بخصوص المياه السطحية، وما تكشف فيها من أسرار لم تخطر على بال البشر قبل القرن الماضي من الزمان؛ فإنه سيتبين لنا مدى الإعجاز وسبق التشريع فيما لم نصل إليه حتى يومنا هذا.
يعتبر الجلد سطحا غير محب أو طاردًا للماء Hydrophobic surface، بفضل طبقة الكيراتين، والمادة الدهنية Sebum، التي تفرزها الغدد الدهنية على كافة أنحاء الجلد، والتي تكون مع الإفراز العرقي الحامضي، طبقة واقية تعرف بالطبقة الحامضية Acid Mantle. ومع إزالة الطبقة الدهنية بالانغماس في الماء لفترات طويلة، أو استخدام الصابون أو المنظفات؛ تفقد هذه الطبقة، وقد ثبت أن هذه الطبقة تمنع تكاثر في هذه المناطق لا غنى لهم عن هذا الماء. ولكننا نجد في المقابل، أن التشريع الإسلامي يُعنى بكيفية استخدام هذا الماء، وليس بتمام تجنّبه والابتعاد عنه.
أما في تلوث الماء بالبويضات من البول أو البراز، فإنه رغم التمدن والتحضر وانتشار العلم بين الناس، والطفرة المحققة في مجال الاتصال والإعلام، فلا زالت دورة الحياة للطفيل قائمة، والإصابة به في اطّراد، مع ما ينفق من أموال، ويبذل من جهود.
أما وإن ذلك في الإسلام من المحرمات أو الملاعن، فقد علم ذلك القاصي والداني، وانتشر في المجتمع الإسلامي، عندما كانت دولة الإسلام، حتى لقد استشعر أعداء المسلمين أن هذه التعاليم على مكان من دينهم، فأصدر "جنكيز خان" (هلك في سنة 624هـ، وكان السلطان الأعظم للتتار )، في السياق الذي كتبه معارضًا منهج المسلمين ــ (أنه من سرق قُتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن زنى قُتل محصنًا كان أو غير محصن، ومن بال في الماء الواقف قُتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن ذبح حيوانًا ذُبح مثله بل يشق جوفه، ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولا...) إلى غير ذلك من ضلالاته، والتي يعرف منها هنا، أن هذا الأمر كان محرمًا ومستقبحًا عند المسلمين مثل الزنا والقتل. (انظر كتاب البداية والنهاية).
وأخيرًا، فإن من دلالات الإعجاز في الحديث النبوي، تخصيص الماء الدائم بتحريم تلويثه والحذر منه، ثم إلحاق المحافظة على عموم الماء في حرمة تلويثه، سواء الراكد أو الذي يجري قياسًا على ذلك.
فإن الماء الجاري لا يناسب حياة القواقع ولا أطوار الطفيل الضعيفة، وكذلك فإن القواقع التي تقوم عليها حياة الطفيليات تنقطع عن الماء الراكد الذي يجف أو ينقطع في بعض مواسم العام.
أما الماء الدائم فإنه ماء راكد، ولكن تتم فيه دورات الحياة للطفيليات، كما رأينا لعدم انقطاعه فترات تهلك القواقع.
كما أننا نرى أنه لم يستثن الشرب من الماء الدائم بالإباحة، وإنما كان الاستثناء فقط لاستخدام هذا الماء في الوضوء أو الاغتسال.
وفي استخدام الماء فإنه يشترط أن يكون على ظاهر الطهارة، ولم يتيقن من البول أو البراز فيه، ومن ثم يستخدم مناولة وعلى حذَر، في غير مبـاشرة لمجرى الماء، ومن غير انغماس فيه.
فبالنسبة للشرب، فإن أمراضًا أخرى تنتقل عبر الماء العذب العموم، وهي مجموعات من الأمراض الفيروسية (مثل التهاب الكبد الوبائي)، أو البكتيرية (مثل التيفود)، أو الطفيلية (مثل الدسونتاريا الأميبية).
وقد تنتقل هذه الأمراض بشرب الماء الملوث، وإن كان على ظاهر الطهارة، ولكنها لا تنتقل عن طريق الجلد.
أما وإن الماء الدائم أقرب للتلوث وإصابة الإنسان بالأمراض وقد حرم ذلك، فقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلويث عامة الموارد، وجعلها من الملاعن التي تستوجب لعن الناس لفاعلها.
فقد روى الإمام مسلم وأبو داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل)).
ففي عصرنا عظمت أسباب التلوث حتى طالت ماء البحر، وضيقت على الناس معايشهم.. ففي تقرير صدر في واشنطن، أن ملايين الأمريكيين يستخدمون يوميًا مياها ملوثة في الشرب والاستحمام والطهي. وقال نفس التقرير، والذي كتبه (إيريك ولسون): إن نسبة الزرنيخ أعلى من المستوى المسموح به في قطاع كبير من ماء الشرب؛ ما يعرض للإصابة بالسرطان،.
كما تأثر ملايين الأشخاص، وبسبب انتهاكات القوانين الخاصة بسلامة المياه (انظر: الماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي).
وهكذا لا أجد لي وللمسلمين اليوم إلا قول الله تعالى:
}لقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ{(التوبة: 128).
فأحرى بنا أن نكون أقرب للاتباع، بعد أن بعدنا عن هدى النبوة، فننفع أنفسنا، ونكون مثالاً يحتذى به.
أمّا غير المسلمين، فليعلموا أن هذا هو دين الله للناس كافة، من تبعه في الدنيا نال خيرها، لقوله تعالى:
}وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا{(النساء: 66)
ومن اتبعه للآخرة نال خيري الدنيا والآخرة، لقوله تعالى:
(مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاٌّ نُّمِدُّ هَؤُلآءِ وَهَؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) (الإسراء 18 ـ 20)
هذا... والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.[center]